كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَلَمَّا تَمَّ بِهَذِهِ الصُّورَةِ تَفْصِيلُ مَا أُجْمِلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنَ الْعَقَائِدِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالْبَعْثِ، نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ بَعْدَهَا مَا يُتِمُّ مَا أَجْمَلَ بِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ وَلاسيما أَحْكَامَ الْقَتَّالِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَكَانَ قَدْ فَصَّلَ بَعْضَ التَّفْصِيلِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، فَكَانَتْ سُورَتَا الْأَنْفَالِ وَالتَّوْبَةِ هُمَا الْمُفَصِّلَتَيْنِ لِذَلِكَ وَبِهِمَا يَتِمُّ ثُلُثُ الْقُرْآنِ.
وَقَدْ عُلِمَ بِمَا شَرَحْنَاهُ أَنَّ رُكْنَ الْمُنَاسَبَةِ الْأَعْظَمِ بَيْنَ سُورَتَيِ الْمَائِدَةِ وَالْأَنْعَامِ أَنَّ الْمَائِدَةَ مُعْظَمُهَا فِي مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْأَنْعَامِ مُعْظَمُهَا بَلْ كُلُّهَا فِي مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ، وَمِنَ التَّنَاسُبِ بَيْنَهُمَا فِي الْأَحْكَامِ أَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ قَدْ ذَكَرَتْ أَحْكَامَ الْأَطْعِمَةِ الْمُحَرَّمَةِ فِي دِينِ اللهِ وَالذَّبَائِحِ بِالْإِجْمَالِ، وَسُورَةُ الْمَائِدَةِ ذَكَرَتْ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ وَهِيَ قَدْ أُنْزِلَتْ أَخِيرًا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ وَمِنَ التَّفْصِيلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ، وَمَا فِي الْمَائِدَةِ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ.
هَذَا مَا أَرَاهُ مِنْ وُجُوهِ التَّنَاسُبِ فِي الْكُلِّيَّاتِ بَيْنَ هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي شَرَعْتُ فِي تَفْسِيرِهَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا مُبَاشَرَةً، وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا مُطْلَقًا. ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ مِنْ ذَلِكَ دُونَ تَصَفُّحِ آيَاتِ السُّورَةِ فَرَأَيْتُ فِي رُوحِ الْمَعَانِي مَا نَصُّهُ:
وَوَجْهُ مُنَاسَبَتِهَا لِآخِرِ الْمَائِدَةِ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ أَنَّهَا افْتُتِحَتْ بِالْحَمْدِ وَتِلْكَ اخْتُتِمَتْ بِفَصْلِ الْقَضَاءِ وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [39: 75] وَقَالَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيُّ فِي وَجْهِ الْمُنَاسِبَةِ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي آخِرِ الْمَائِدَةِ {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ} عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، افْتَتَحَ جَلَّ شَأْنُهُ هَذِهِ السُّورَةَ بِشَرْحِ ذَلِكَ وَتَفْصِيلِهِ، فَبَدَأَ سُبْحَانَهُ بِذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَضَمَّ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنَّهُ جَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ وَهُوَ بَعْضُ مَا تَضَمَّنَهُ مَا فِيهِنَّ، ثُمَّ ذَكَرَ عَزَّ اسْمُهُ أَنَّهُ خَلَقَ النَّوْعَ الْإِنْسَانِيَّ وَقَضَى لَهُ أَجَلًا وَجَعَلَ لَهُ أَجَلًا آخَرَ لِلْبَعْثِ، وَأَنَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ مُنْشِئُ الْقُرُونِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إِلَخْ. فَأَثْبَتَ لَهُ مِلْكَ جَمِيعِ الْمَظْرُوفَاتِ لِظَرْفِ الْمَكَانِ، ثُمَّ قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} فَأَثْبَتَ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا مَلَكَ جَمِيعَ الْمَظْرُوفَاتِ لِظَرْفِ الزَّمَانِ، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ خَلْقَ سَائِرِ الْحَيَوَانِ مِنَ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ، ثُمَّ خَلْقَ النَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ وَالْمَوْتِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ مِنَ الْإِنْشَاءِ وَالْخَلْقِ لِمَا فِيهِنَّ مِنَ النَّيِّرَيْنِ وَالنُّجُومِ وَفَلْقِ الْإِصْبَاحِ وَفَلْقِ الْحَبِّ وَالنَّوَى وَإِنْزَالِ الْمَاءِ وَإِخْرَاجِ النَّبَاتِ وَالثِّمَارِ بِأَنْوَاعِهَا وَإِنْشَاءِ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرِ مَعْرُوشَاتٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ تَفْصِيلُ مَا فِيهِنَّ.
وَذَكَرَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ وَجْهًا آخَرَ فِي الْمُنَاسَبَةِ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ} [5: 87] إِلَخْ. وَذَكَرَ جَلَّ شَأْنُهُ بَعْدَهُ {مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} إِلَخْ. فَأَخْبَرَ عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ حَرَّمُوا أَشْيَاءَ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ تَعَالَى افْتِرَاءً عَلَى اللهِ عَزَّ شَأْنُهُ، وَكَانَ الْقَصْدُ بِذَلِكَ تَحْذِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُحَرِّمُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَيُشَابِهُوا الْكُفَّارَ فِي صُنْعِهِمْ، وَكَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَازِ سَاقَ جَلَّ جَلَالُهُ هَذِهِ السُّورَةَ لِبَيَانِ حَالِ الْكُفَّارِ فِي صُنْعِهِمْ فَأَتَى بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَبْيَنِ وَالنَّمَطِ الْأَكْمَلِ، ثُمَّ جَادَلَهُمْ فِيهِ وَأَقَامَ الدَّلَائِلَ عَلَى بُطْلَانِهِ وَعَارَضَهُمْ وَنَاقَضَهُمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْقِصَّةُ، فَكَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ شَرْحًا لِمَا تَضَمَّنَتْهُ تِلْكَ السُّورَةُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ وَتَفْصِيلًا وَبَسْطًا وَإِتْمَامًا وَإِطْنَابًا، وَافْتُتِحَتْ بِذِكْرِ الْخَلْقِ وَالْمُلْكِ؛ لِأَنَّ الْخَالِقَ الْمَالِكَ هُوَ الَّذِي لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مُلْكِهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ إِبَاحَةً وَمَنْعًا وَتَحْرِيمًا وَتَحْلِيلًا، فَيَجِبُ أَلَّا يُعْتَرَضَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مُلْكِهِ.
وَلِهَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا اعْتِلَاقٌ مِنْ وَجْهٍ بِالْفَاتِحَةِ لِشَرْحِهَا إِجْمَالَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَبِالْبَقَرَةِ لِشَرْحِهَا إِجْمَالَ قَوْلِهِ سبحانه: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [2: 21] وَقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ: {الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [2: 29] وَبِآلِ عِمْرَانَ مِنْ جِهَةِ تَفْصِيلِهَا لِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: {وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [3: 14] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [3: 185] إِلَخْ. وَبِالنِّسَاءِ مِنْ جِهَةِ مَا فِيهَا مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ وَالتَّقْبِيحِ لِمَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ وَقَتْلِ الْبَنَاتِ، وَبِالْمَائِدَةِ مِنْ حَيْثُ اشْتِمَالِهَا عَلَى الْأَطْعِمَةِ بِأَنْوَاعِهَا.
وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ قُطْبُ هَذِهِ السُّورَةِ دَائِرًا عَلَى إِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَدَلَائِلِ التَّوْحِيدِ حَتَّى قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: إِنَّ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ كُلَّ قَوَاعِدِ التَّوْحِيدِ نَاسَبَتْ تِلْكَ السُّورَةَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ فِيهَا إِبْطَالَ أُلُوهِيَّةِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَتَوْبِيخَ الْكَفَرَةِ عَلَى اعْتِقَادِهِمُ الْفَاسِدِ وَافْتِرَائِهِمُ الْبَاطِلِ.
وَهَذَا- ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا كَانَتْ نِعَمُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِمَّا تَفُوتُ الْحَصْرَ، وَلَا يُحِيطُ بِهَا نِطَاقُ الْعَدِّ، إِلَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ إِجْمَالًا إِلَى إِيجَادٍ وَإِبْقَاءٍ فِي النَّشْأَةِ الْأُولَى، وَإِيجَادٍ وَإِبْقَاءٍ فِي النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ وَأُشِيرَ فِي الْفَاتِحَةِ الَّتِي هِيَ أُمُّ الْكِتَابِ إِلَى الْجَمِيعِ، وَفِي الْأَنْعَامِ إِلَى الْإِيجَادِ الْأَوَّلِ، وَفِي الْكَهْفِ إِلَى الْإِبْقَاءِ الْأَوَّلِ، وَفِي سَبَأٍ إِلَى الْإِيجَادِ الثَّانِي، وَفِي فَاطِرٍ إِلَى الْإِبْقَاءِ الثَّانِي ابْتُدِئَتْ هَذِهِ الْخَمْسُ بِالتَّحْمِيدِ، وَمِنَ اللَّطَائِفِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ فِي كُلِّ رُبُعٍ مِنْ كِتَابِهِ الْكَرِيمِ الْمَجِيدِ سُورَةً مُفْتَتَحَةً بِالتَّحْمِيدِ. انْتَهَى وَسَتَعْلَمُ مَا فِيهِ.
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ}.
افْتَتَحَ اللهُ كِتَابَهُ بِالْحَمْدِ، ثُمَّ افْتَتَحَ بِهِ أَرْبَعَ سُوَرٍ مَكِّيَّاتٍ أُخْرَى مُشْتَمِلَةً كُلٌّ مِنْهَا عَلَى دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَمُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ فِيهَا، الْأُولَى الْأَنْعَامُ وَهِيَ آخِرُ سُورَةٍ كَامِلَةٍ فِي الرُّبُعِ الْأَوَّلِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَالثَّانِيَةُ الْكَهْفُ وَهِيَ مُشْتَرِكَةٌ بَيْنَ آخِرِ الرُّبُعِ الثَّانِي وَأَوَّلِ الرُّبُعِ الثَّالِثِ وَالثَّالِثةُ وَالرَّابِعَةُ سَبَأٌ وفَاطِرٌ، وَهُمَا آخِرُ الرُّبُعِ الثَّالِثِ، وَلَيْسَ فِي الرُّبُعِ الرَّابِعِ سُورَةٌ مُفْتَتَحَةٌ بِالْحَمْدِ، وَقَدْ قَرَنَ الْحَمْدَ فِي الْأَوْلَى بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَجَعْلِ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى عَبْدِهِ الْكَامِلِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا سُمِّيَ نُورًا بَلْ هُمَا أَعْظَمُ أَنْوَارِ الْهِدَايَةِ وَفِي الثَّالِثةِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَبِحَمْدِهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ، وَبِصِفَاتِ الْحِكْمَةِ وَالْخِبْرَةِ وَالْعِلْمِ بِمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَالرَّابِعَةِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَجَعْلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ وَوَصْفُهُ بِسَعَةِ الْقُدْرَةِ، وَالْمَلَائِكَةُ مِنَ الْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَالَّتِي تَعْرُجُ فِيهَا. فَظَهَرَ بِهَا أَنَّ السُّوَرَ الثَّلَاثَ مُفَصِّلَةٌ لِمَا أَجْمَلَ فِي الْأُولَى الْأَنْعَامِ مِمَّا حَمِدَ اللهَ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّهَا مُؤَيِّدَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} الْحَمْدُ هُوَ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ وَالذِّكْرُ بِالْجَمِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَإِسْنَادُ الْحَمْدِ إِلَى اللهِ تَعَالَى خَبَرٌ مِنْهُ تَعَالَى عَلَى الْمُخْتَارِ، وَالْعَبْدُ يَحْكِيهِ بِالتِّلَاوَةِ مُؤْمِنًا بِهِ فَيَكُونُ حَامِدًا لِمَوْلَاهُ، وَيَذْكُرُهُ فِي غَيْرِ التِّلَاوَةِ إِنْشَاءً لِلْحَمْدِ وَتَذَكُّرًا لَهُ، وَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ الْحَمْدُ هُنَا إِنْشَاءً مِنْهُ تَعَالَى، وَإِنَّ إِنْشَاءَ الْحَمْدِ بِالْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ جَمْعٌ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ، أَثْنَى سُبْحَانَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا عَلَّمَ بِهِ عِبَادَهُ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ، فَأَثْبَتَ أَنَّ كُلَّ ثَنَاءٍ حَسَنٍ فَهُوَ ثَابِتٌ لَهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَبِمَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ مِنَ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَالْإِعْدَادِ وَالْإِمْدَادِ. فَذَاتُهُ تَعَالَى مُتَّصِفَةٌ بِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وُجُوبًا فَالْكَمَالُ الْأَعْلَى دَاخِلٌ فِي مَفْهُومِ حَقِيقَتِهَا أَوْ لَازِمٌ بَيِّنٌ مِنْ لَوَازِمِهِ. وَقَدْ وَصَفَ تَعَالَى نَفْسَهُ فِي مَقَامِ هَذَا الْحَمْدِ بِصِفَتَيْنِ مِنْ صِفَاتِهِ الْفِعْلِيَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْحَمْدِ لَهُ، وَهُمَا خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَجَعْلُ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ.
أَمَّا خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَمَعْنَاهُ إِيجَادُ هَذِهِ الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ الَّتِي نَرَى كَثِيرًا مِنْهَا فَوْقَنَا، وَهَذَا الْعَالَمُ الَّذِي نَعِيشُ فِيهِ إِيجَادًا مُرَتَّبًا مُنَظَّمًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى الْخَلْقِ لُغَةً وَشَرْعًا.
وَأَمَّا جَعْلُ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ فَهُوَ فِي الْحِسِّيَّاتِ بِمَعْنَى إِيجَادِهِمَا لِأَنَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى الْجَعْلِ الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَعْنَاهُ فِي الْمَعْنَوِيَّاتِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ جَعَلَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى أَحْدَثَ وَأَنْشَأَ كَقَوْلِهِ: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} وَإِلَى مَفْعُولَيْنِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى صَيَّرَ كَقَوْلِهِ: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [43: 19] وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْجَعْلِ أَنَّ الْخَلْقَ فِيهِ مَعْنَى التَّقْدِيرِ، وَفِي الْجَعْلِ مَعْنَى التَّضْمِينِ، كَإِنْشَاءِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ، أَوْ تَصْيِيرِ شَيْءٍ شَيْئًا، أَوْ نَقْلِهِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَمِنْ ذَلِكَ {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [7: 189] {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} لِأَنَّ الظُّلُمَاتِ مِنَ الْأَجْرَامِ الْمُتَكَاثِفَةِ وَالنُّورَ مِنَ النَّارِ {وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا} [13: 38] {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [38: 5] اهـ. وَقَدْ أَخَذَهُ الرَّازِيُّ مِنْ غَيْرِ عَزْوٍ وَزَادَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَإِنَّمَا حَسُنَ لَفْظُ الْجَعْلِ هُنَا لِأَنَّ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ لَمَّا تَعَاقَبَا صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّمَا تَوَلَّدَ مِنَ الْآخَرِ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو السُّعُودِ: وَالْجَعْلُ هُوَ الْإِنْشَاءُ وَالْإِبْدَاعُ كَالْخَلْقِ خَلَا أَنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْإِنْشَاءِ التَّكْوِينِيِّ.
وَفِيهِ مَعْنَى التَّقْدِيرِ وَالتَّسْوِيَةِ، وَهَذَا عَامٌّ لَهُ كَمَا فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَلِلتَّشْرِيعِيِّ أَيْضًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} الْآيَةَ انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ، وَفِيهِ كَلَامٌ آخَرُ فِيمَا يُلَابِسُ مَفْعُولَهُ مِنَ الظُّرُوفِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [5: 97] أَنَّ الْجَعْلَ فِيهَا خَلْقٌ تَكْوِينِيٌّ وَأَمْرٌ شَرْعِيٌّ مَعًا. وَقَدْ بَيَّنَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِهِ وُجُوهَ اسْتِعْمَالِ الْجَعْلِ فَكَانَتْ خَمْسَةً فَلْيُرَاجِعْهَا فِي مُفْرَدَاتِهِ مَنْ شَاءَ.
وَالظُّلْمَةُ الْحَالَّةُ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا كُلُّ مَكَانٍ لَيْسَ فِيهِ نُورٌ، لَا عَدَمُ النُّورِ أَيْ فَقْدُهُ كَمَا يُوهِمُهُ كَلَامُ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَعَ قَوْلِهِمْ إِنَّ الظُّلْمَةَ هِيَ الْأَصْلُ كَمَا سَيَأْتِي. قَالَ الرَّاغِبُ: الظُّلْمَةُ عَدَمُ النُّورِ، وَقَالَ: النُّورُ الضَّوْءُ الْمُنْتَشِرُ الَّذِي يُعِينُ عَلَى الْإِبْصَارِ، وَقَالَ: الضَّوْءُ مَا انْتَشَرَ مِنَ الْأَجْسَامِ النَّيِّرَةِ، وَيُقَالُ: ضَاءَتِ النَّارُ وَأَضَاءَهَا غَيْرُهَا انْتَهَى. وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الضِّيَاءِ وَالنُّورِ بِمَا لَا مَحَلَّ لِذِكْرِهِ هُنَا. وَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ مِنَ الْعَالَمِ أَظْهَرُ وَلَا أَغْنَى عَنِ التَّعْرِيفِ مِنَ الْمَظَاهِرِ الْحِسِّيَّةِ لِلرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. عَلَى أَنَّ بَيَانَ حَقِيقَتِهِ الْعِلْمِيَّةِ مِنْ أَعْسَرِ الْأُمُورِ، وَكَثِيرًا مَا كَانَ الْخَفَاءُ مِنْ شِدَّةِ الظُّهُورِ، وَأَقْرَبُ مَا نُعَرِّفُهُ بِهِ لِلْجُمْهُورِ أَنْ نَقُولَ: هُوَ اشْتِعَالٌ يَحْدُثُ فِي أَجْسَامٍ لَطِيفَةٍ مُنْبَثَّةٍ فِي الْهَوَاءِ وَفِي الْأَجْسَامِ الْكَثِيفَةِ الَّتِي تَسْتَوْقِدُ بِهَا النَّارَ.
وَالنُّورُ قِسْمَانِ: حِسِّيٌّ صُورِيٌّ، وَهُوَ مَا يُدْرَكُ بِالْبَصَرِ، وَمَعْنَوِيٌّ عَقْلِيٌّ أَوْ رُوحِيٌّ وَهُوَ مَا يُدْرَكُ بِالْبَصِيرَةِ، وَقَدْ أُطْلِقَتْ كَلِمَةُ النُّورِ فِي التَّنْزِيلِ عَلَى الْقُرْآنِ، وَعَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَتَيِ النِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ.
وَقَدْ أُفْرِدَ النُّورُ وَجُمِعَتِ الظُّلْمَةُ هُنَا وَفِي كُلِّ آيَةٍ قُوبِلَ فِيهَا بَيْنَ النُّورِ وَالظَّلَامِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الْحِسِّيِّ أَوِ الْمَعْنَوِيِّ، بَلْ لَمْ يُذْكَرِ النُّورُ فِي الْقُرْآنِ، إِلَّا مُفْرَدًا وَالظُّلْمَةُ إِلَّا جَمْعًا وَحِكْمَةُ ذَلِكَ أَنَّ النُّورَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ مَصَادِرُهُ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ قَوِيًّا وَيَكُونُ ضَعِيفًا وَأَمَّا الظُّلْمَةُ فَهِيَ تَحْدُثُ بِمَا يَحْجُبُ النُّورَ مِنَ الْأَجْسَامِ غَيْرِ النَّيِّرَةِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَكَذَلِكَ النُّورُ الْمَعْنَوِيُّ شَيْءٌ وَاحِدٌ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ أَوْ جُزْئِيٍّ مِنْ جُزْئِيَّاتِهِ، وَيُقَابِلُ كُلًّا مِنْهُمَا ظُلُمَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ، فَالْحَقُّ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ وَالْبَاطِلُ الَّذِي يُقَابِلُهُ كَثِيرٌ، وَالْهُدَى وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ وَالضَّلَالُ الَّذِي يُقَابِلُهُ كَثِيرٌ، مِثَالُ ذَلِكَ تَوْحِيدُ اللهِ تَعَالَى وَمَا يُقَابِلُهُ مِنَ التَّعْطِيلِ وَالشِّرْكِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ بِأَنْوَاعِهِ، وَالشِّرْكِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ بِأَنْوَاعِهِ وَفَضِيلَةُ الْعَدْلِ وَمَا يُقَابِلُهَا مِنْ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ.
وَقُدِّمَتِ الظُّلُمَاتُ فِي الذِّكْرِ عَلَى النُّورِ لِأَنَّ جِنْسَهَا مُقَدَّمٌ فِي الْوُجُودِ، فَقَدْ وُجِدَتْ مَادَّةُ الْكَوْنِ وَكَانَ دُخَانًا مُظْلِمًا أَوْ سَدِيمًا كَمَا يَقُولُ عُلَمَاءُ الْفَلَكِ ثُمَّ تَكَوَّنَتِ الشُّمُوسُ بِمَا حَدَثَ فِيهَا مِنَ الِاشْتِعَالِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرَكَةِ كَمَا يَقُولُونَ، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ أَوْ يُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو عِنْدَ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلَقَ فِي ظُلْمَةٍ ثُمَّ رَشَّ عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ وَفِي رِوَايَةٍ ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ فَمَنْ أَصَابَهُ نُورُهُ اهْتَدَى وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا النُّورَ هُوَ الْمَعْنَوِيُّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُشَبَّهٌ بِالنُّورِ الْحِسِّيِّ فِي تَكْوِينِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ» خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ فَالظَّاهِرُ أَنَّ النُّورَ فِيهِ هُوَ الْحِسِّيُّ، وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ تُرَى الْمَلَائِكَةُ كَمَا يُرَى النُّورُ فَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّيْءِ وَمَا خُلِقَ مِنْهُ أَصْلُهُ عَظِيمٌ كَمَا نَرَاهُ فِي أَنْفُسِنَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا مِنْ نُورٍ غَيْرَ هَذَا الَّذِي نَرَاهُ بِأَعْيُنِنَا.
وَسَبْقُ الظُّلُمَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ لِلنُّورِ الْمَعْنَوِيِّ أَظْهَرُ، فَإِنَّ نُورَ الْعِلْمِ وَالْهِدَايَةِ كَسْبِيٌّ فِي الْبَشَرِ وَمَا كَانَ غَيْرُ كَسْبِيٍّ فِي ذَاتِهِ كَالْوَحْيِ فَتَلَقِّيهِ كَسْبِيٌّ وَفَهْمُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ كَسْبِيَّانِ، وَظُلُمَاتُ الْجَهْلِ وَالْأَهْوَاءِ سَابِقَةٌ عَلَى هَذَا النُّورِ، فَالرَّسُولُ لَا يُولَدُ رَسُولًا وَإِنَّمَا يُؤْتَى الرِّسَالَةَ إِذَا بَلَغَ أَشَدَّهُ وَاسْتَوَى، وَالْعَالِمُ لَا يُولَدُ عَالِمًا، وَلَا الْفَاضِلُ فَاضِلًا إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ وَالْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [16: 78].
وَقَدِ اخْتَلَفَ مُفَسِّرُو السَّلَفِ فِي الْمُرَادِ مِنَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ هُنَا فَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} قَالَ: الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ. وَأَخْرَجَ هُوَ وَغَيْرُهُ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ قَبْلَ الْأَرْضِ وَالظُّلْمَةَ قَبْلَ النُّورِ وَالْجَنَّةَ قَبْلَ النَّارِ إِلَخْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: الظُّلُمَاتُ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَالنُّورُ نُورُ النَّهَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الزَّنَادِقَةِ. قَالُوا: إِنَّ اللهَ لَمْ يَخْلُقِ الظُّلْمَةَ وَلَا الْخَنَافِسَ وَلَا الْعَقَارِبَ وَلَا شَيْئًا قَبِيحًا وَإِنَّمَا خَلَقَ النُّورَ وَكُلَّ شَيْءٍ حَسَنٍ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ، وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} رَدٌّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ الْمُنْكِرِينَ لِوُجُودِ اللهِ تَعَالَى وَقَوْلَهُ: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} رَدٌّ عَلَى الْمَجُوسِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الظُّلْمَةَ وَالنُّورَ هُمَا الْمُدَبِّرَانِ وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} رَدٌّ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمَنْ دَعَا دُونَ اللهِ إِلَهًا.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالظُّلُمَاتِ هُنَا الظُّلُمَاتُ الْحِسِّيَّةُ وَبِالنُّورِ النُّورُ الْحِسِّيُّ، وَبَعْضَهُمْ قَالَ بِمَا يُقَابِلُ ذَلِكَ، وَفِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ رَدٌّ عَلَى الْمَجُوسِ أَوِ الثَّنَوِيَّةِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ لِلْعَالَمِ رَبَّيْنِ، أَحَدُهُمَا النُّورُ وَهُوَ الْخَالِقُ لِلْخَيْرِ، وَالثَّانِي الظُّلْمَةُ وَهُوَ خَالِقُ الشَّرِّ. وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ إِرَادَةِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ مِنْ كُلٍّ مِنَ اللَّفْظَيْنِ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْأَوَّلُ حَمَلَ اللَّفْظَيْنِ عَلَيْهِمَا وَاسْتَشْكَلَهُ الرَّازِيُّ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا جَوَازُهُ وَجَوَازُ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ فِي مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ إِذَا احْتَمَلَ الْمَقَامُ ذَلِكَ بِلَا الْتِبَاسٍ كَمَا هُنَا، وَالتَّعْبِيرُ بِالْجَعْلِ دُونَ الْخَلْقِ يُلَائِمُ هَذَا، فَإِنَّ الْجَعْلَ يَشْمَلُ الْخَلْقَ وَالْأَمْرَ أَيِ الشَّرْعَ كَمَا تَقَدَّمَ فَيُفَسَّرُ جَعْلُ كُلِّ نُورٍ بِمَا يَلِيقُ بِهِ، فَجَعْلُ الدِّينِ شَرْعُهُ وَالْقُرْآنِ إِنْزَالُهُ وَالرَّسُولِ إِرْسَالُهُ وَالْعِلْمِ وَالْهُدَى تَهْيِئَةُ أَسْبَابِهِمَا.
وَقَدْ ذُكِرَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ عَلَى خَلْقِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ وَأَشْرَفُ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا خُلِقَتْ قَبْلَ الْأَرْضِ كَمَا ذُكِرَ عَنْ قَتَادَةَ آنِفًا وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَفِي الثَّانِي خِلَافٌ مَعْرُوفٌ.
{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} أَوْ عَلَى جُمْلَةِ {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وَقَدْ عُطِفَتْ بِثُمَّ الدَّالَّةِ عَلَى بُعْدِ مَا بَيْنَ مَدْلُولَيِ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ؛ لِإِفَادَةِ اسْتِبْعَادِ مَا فَعَلَهُ الْكَافِرُونَ وَكَوْنِهِ ضِدَّ مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ لِلْإِلَهِ الْحَقِيقِ بِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ؛ لِكَوْنِهِ هُوَ الْخَالِقُ لِجَمِيعِ الْكَوْنِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ وَمَا فِيهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَالْهَادِي لِمَا فِيهِ مِنَ النُّورِ الَّذِي يَهْتَدِي بِهِ الْمُوَفَّقُونَ فِي كُلِّ ظُلْمَةٍ مِنْهَا، كَأَنَّهُ قَالَ: وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَعْدِلُونَ بِهِ غَيْرَهُ أَيْ يَجْعَلُونَهُ عَدْلًا لَهُ، أَيْ عَدِيلًا مُسَاوِيًا لَهُ فِي كَوْنِهِ يُعْبَدُ وَيُدْعَى لِكَشْفِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ، فَهُوَ بِمَعْنَى يُشْرِكُونَ بِهِ، وَيَتَّخِذُونَ لَهُ أَنْدَادًا وَقِيلَ: يَعْدِلُونَ بِأَفْعَالِهِ عَنْهُ وَيَنْسُبُونَهَا إِلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَجْعَلْهُ سَبَبًا لِتِلْكَ الْأَفْعَالِ، كَالْمَعْبُودَاتِ الَّتِي يَنْسُبُونَ إِلَيْهَا مَا لَيْسَ لَهَا أَدْنَى تَأْثِيرٍ فِيهِ، وَأَدْنَى مِنْ هَذَا أَنْ تُنْسَبَ إِلَى الْأَسْبَابِ مَعَ نِسْيَانِ فَضْلِ اللهِ الَّذِي سَخَّرَ لَهُمْ تِلْكَ الْأَسْبَابَ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ مَعْرِفَةُ السَّبَبِ وَالْخَالِقِ الْوَاضِعِ لِلْأَسْبَابِ رَحْمَةً مِنْهُ بِالْعِبَادِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَعْدِلُونَ عَنِ الْحَقِّ وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنْ حَمْدِ الْخَالِقِ وَشُكْرِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَدَلَ عَنِ الشَّيْءِ عُدُولًا إِذَا جَارَ عَنْهُ وَانْحَرَفَ، وَمَالَ إِلَى غَيْرِهِ وَانْصَرَفَ.